في الدر المنثور: رابعة بنت اسماعيل البصريّة العدويّة، مولاة آل عتيك.
كانت
رضي الله عنها كثيرة البكاء والحزن، وكانت إذا سمعت ذكر النار غشي عليها
زماناً، وكانت تقول: استغفارنا يحتاج إلى استغفار، وكانت تردّ ما يعطيها
الناس وتقول: مالي حاجة بالدنيا، وكانت بعد أن بلغت ثمانين سنة كأنّها
الخلال البالي تكاد تسقط إذا مشت. وكان كفنها لم يزل موضوعاً أمامها،
وموضع سجودها كهيئة الماء المستنقع من دموعها.
وسمعتْ رضي الله عنها سفيان الثوري يقول: واحزناه.
فقالت: واقلة حزناه، ولو كنتَ حزيناً ما هنأك العيش. ومناجاتها كثيرة ومشهورة.
وقال ابن خلكان في ترجمتها: إنّها كانت من أعيان عصرها، وأخبارها في الصلاح والعبادة مشهورة.
وذكر أبو القاسم القشيري في الرسالة: أنّها كانت تقول في مناجاتها: إلهي تحرق بالنار قلباً يحبّك، فهتف بها مرّة هاتف: ما كنّا نفعل هذا، فلا تظنّي بنا ظنّ السوء.
وقال بعضهم: كنتُ أهدي لرابعة العدوية، فرأيتها في المنام تقول: هداياك تأتينا على أطباق من نور مخمّرة بمناديل من نور.
وكانت تقول: ما ظهر من أعمالي لا أعدّه شيئاً.
ومن وصاياها: اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم.
وأورد لها الشيخ شهاب الدين السهروردي في كتاب عوارف المعارف هذين البيتين: نّي جَعلتكَ في الفؤاد محدّثي
وأبحتُ جسمي مَنْ أراد جلوسي
فالجسمُ مني للجليس مؤانس
وحبيبُ قلبـي فـي الفؤاد أنيس
وكانت
وفاتها في سنة 135هـ، ذكره ابن الجوزي في شذور العقود، وقال غيره سنة
185هـ، وقبرها يزار، وهو بظاهر القدس من شرقيه على رأس جبل يسمّى الطور.
وذكر ابن الجوزي في كتاب صفوة الصفوة في ترجمة رابعة المذكورة باسناد له
متّصل إلى عبدة بنت أبي شوال قال ابن الجوزي: وكانت من خيار إماء الله
تعالى وكانت تخدم رابعة.
قالت: كانت
رابعة تصلّي الليل كلّه، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاّها هجعة خفيفة حتى
يسفر الفجر، فكنتُ أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها وهي فزع: يا نفس كم
تنامين، وإلى كم تنامين، يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلاّ لصرخة
يوم النشور.
وكان ذلك دأبها دهرها حتى ماتت، ولما حضرتها الوفاة دعتني
وقالت: يا عبدة لا تؤذني بموتي أحداً وكفنيني في جبّتي هذه وهي جبّة من
شعر، كانت تقوم فيها إذا هدأت العيون.
قالت:
فكفنتها في الجبة وفي خمار من صوف كانت تلبسه، ثم رأيتها بعد ذلك بسنة أو
نحوها في منامي عليها حلّة استبرق خضراء وخمار من سندس أخضر لم أر شيئاً
قط أحسن منه.
فقلت: يا رابعة ما فعلتِ بالجبة التي كفّنّاك فيها والخمار الصوف؟
قالت: إنّ الله نزعه عني وأبدلت به ما ترينه عليّ، فطويت أكفاني وختم عليها ورفعت في عليين ليكمل لي بها ثوابها يوم القيامة.
فقلت لها: لهذا كنت تعملين أيام الدنيا؟
فقالت: وما هذا عندما رأيت من كرامة الله عزّ وجلّ لأوليائه.
فقلت لها: ما فعلت عبيدة بنت أبي كلاب؟
فقالت: هيهات هيهات سبقتنا والله إلى الدرجات العُلا.
فقلت: وبمَ، وقد كنتِ عند الناس أكبر منها؟
فقالت: إنّها لم تكن تبالي على أي حال أصبحت من الدنيا أو أمست.
وكان الحسن البصري توفّيت زوجته فأراد زوجة، فقيل له عن رابعة العدويّة، فأرسل إليها يخطبها، فردته وقالت:
راحتي يا اخوتي في خلوتي
وحبيبي دائماً فـي حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضاً
وهـواه فـي البرايا محنتي
حيثما كنتُ اُشـاهد حسنـه
فهو محـرابي إليـه قبلتي
إن أمت وجداً وما ثمّ رضـىً
واعنـائي في الورى واشقوتي
يـا طبيبَ القلب يا كلّ المنى
جـد لوصلٍ منكَ يشفي مهجتي
يا سروري يـا حياتـي دائماً
نـشأتي منـكَ وأيضـاً نشوتي
قد هجرتُ الخلقَ جمعاً أرتجي
منـكَ وصلاً فهو أقصى منيتي
وكانت تقول مرّة: إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، بل حبّاً لك وقصد لقاء وجهك، وتنشد:
اُحبّك حبّيـن حـبّ الهـوى
وحبّـاً لأنّـــك أهـل لـذاك
فأمّا الذي هو حبّ الهـوى
فشغلـي بذكـركَ عمّـن سواك
وأمّا الذي أنـت أهـل لـه
فكشفك لـي الحجب حتـى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لكَ الحمد في ذا وذاك(1)
وذكرها
الشيخ الطهراني في الذريعة قائلاً: ديوان رابعة العدوية اُم الخير بنت
اسماعيل العدوي المتوفاة في القدس في 135هـ أو 185هـ، كانت تُضرب الأمثال
بزهدها وعرفانها، وكانت في عصر سفيان الثوري والحسن البصري. خيرات حسان:
138، ابن خلكان: 182، تذكرة الأولياء 1: 58، نفحات الانس: 552(2).
*******
(1) الدر المنثور في طبقات ربّات الخدور: 203.
(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 9 | 2: 340 رقم 2032.