حذيفة بن اليَمان بن جابر العبسي وكنيته أبا عبد الله وكان صاحب سر
رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم، جاء حذيفة هو وأخـوه ووالدهمـا الى
رسـول الله واعتنقوا الإسلام ولقد نما رضي الله عنه في ظل هذا الديـن،
وكانت له موهبـة في قراءة الوجوه و السرائر، فعاش مفتوح البصر والبصيرة
على مآتي الفتن ومسالك الشرور ليتقيها، فقد جاء الى الرسول يسأله: يا رسول
الله ان لي لسانا ذربا على أهلي وأخشى أن يدخلني النار...
فقال له النبي: فأين أنت من الاستغفار؟؟...اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.
*******
يوم أحد
لقد
كان في ايمانه رضي الله عنه وولائه قويا، فها هو يرى والده يقتل خطأ يوم
أحد بأيدي مسلمة، فقد رأى السيوف تنوشه فصاح بضاربيه: أبي، أبي، انه أبي
!!...ولكن أمر الله قد نفذ، وحين علم المسلمون تولاهم الحزن والوجوم، لكنه
نظر اليهم اشفاقا وقال: يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين...ثم انطلق
بسيفه يؤدي واجبه في المعركة الدائرة...وبعد انتهاء المعركة علم الرسول
صلى الله عليه و آله وسلم بذلك، فأمر بالدية عن والد حذيفة حسيل بن جابر
ولكن تصدق بها حذيفة على المسلمين، فزداد الرسول له حباً وتقديراً...
*******
غزوة الخندق
عندما
دب الفشل في صفوف المشركين وحلفائهم واختلف أمرهم وفرق الله جماعتهم، دعا
الرسول صلى الله عليه و آله وسلم حذيفة بن اليمان، وكان الطقس باردا
والقوم يعانون من الخوف والجوع، وقال له: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم
فانظر ماذا يصنعون، ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا!...فذهب ودخل في القوم،
والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لاتقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء،
فقام أبوسفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ من جليسه ؟...
قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان الى جنبي فقلت: من أنت؟
قال:
فلان بن فلان...فأمن نفسه في المعسكر، ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش،
انكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا
بنوقريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن
لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني
مرتحل...ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير، يقول حذيفة: لولا عهد رسول الله
صلى الله عليه و آله وسلم الي الا تحدث شيئا حتى تأتيني، لقتلته
بسهم...وعاد حذيفة الى الرسول الكريم حاملا له البشرى...
*******
خوفه من الشر
كان حذيفة رضي الله عنه يرى أن الخير واضح في الحياة، ولكن الشر هو المخفي، لذا فهو يقول:...
كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني...
قلت: يا رسول الله، انا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟...
قال: نعم ...
قلت: فهل من بعد هذا الشر من خير؟...
قال: نعم، وفيه دخن...
قلت: وما دخنه؟...
قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر...
قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر؟...
قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها...
*******
المنافقون
كان حذيفة رضي الله عنه يعلم أسماء المنافقين، أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه و آله.
وكان عمر إذا مات ميّت يسأل عن حذيفة، فإن حضر الصلاة عليه صلى عليه عمر، وإن لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضر عمر...
آخر ما سمع من الرسول
عن حذيفة قال:
أتيتُ رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم في مرضه الذي توفاه الله فيه،
فقلت: يا رسول الله، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي؟!...فردَّ عليّ بما شاء الله
ثم قال: يا حذيفة أدْنُ منّي...فدنوتُ من تلقاء وجههِ، قال: يا حُذيفة
إنّه من ختم الله به بصومِ يومٍ، أرادَ به الله تعالى أدْخَلَهُ الله
الجنة، ومن أطعم جائعاً أراد به الله، أدخله الله الجنة، ومن كسا عارياً
أراد به الله، أدخله الله الجنة...
قلتُ: يا رسول الله، أسرّ هذا الحديث أم أعلنه...
قال: بلْ أعلنْهُ...فهذا آخر شيءٍ سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم...
*******
أهل المدائن
خرج
أهل المدائن لاستقبال حذيفة عند عُين والياً عليها، فأبصروا أمامهم رجلا
يركب حماره على ظهره اكاف قديم، وأمسك بيديه رغيفا وملحا، وهو يأكل ويمضغ،
وكاد يطير صوابهم عندما علموا أنه الوالي حذيفة بن اليمان المنتظر، ففي
بلاد فارس لم يعهدوا الولاة كذلك، وحين رآهم حذيفة يحدقون به قال لهم:
اياكم ومواقف الفتن...
قالوا: وما مواقف الفتن يا أبا عبد الله؟...
قال:
أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير أو الوالي، فيصدقه بالكذب، ويمتدحه
بما ليس فيه...فكانت هذه البداية أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد،
ومنهجه في الولاية.
*******
معركة نهاوند
في
معركة نهاوند حيث احتشد الفرس في مائة ألف مقاتل وخمسين ألفا، اختار
الخليفة عمر لقيادة الجيوش المسلمة النعمان بن مقرن ثم كتب الى حذيفة أن
يسير اليه على رأس جيش من الكوفة، وأرسل عمر للمقاتلين كتابه يقول: اذا
اجتمع المسلمون، فليكن كل أمير على جيشه، وليكن أمير الجيوش جميعا النعمان
بن مقرن، فاذا استشهد النعمان فليأخذ الراية حذيفة، فاذا استشهد فجرير بن
عبد الله...وهكذا استمر يختار قواد المعركة حتى سمى منهم سبعة...
والتقى
الجيشان ونشب قتال قوي، وسقط القائد النعمان شهيدا، وقبل أن تسقط الراية
كان القائد الجديد حذيفة يرفعها عالياً وأوصى بألا يذاع نبأ استشهاد
النعمان حتى تنجلي المعركة، ودعا نعيم بن مقرن فجعله مكان أخيه النعمان
تكريما له، ثم هجم على الفرس صائحا: الله أكبر: صدق وعده، الله أكبر: نصر
جنده...ثم نادى المسلمين قائلا: يا أتباع محمد، ها هي ذي جنان الله تتهيأ
لاستقبالكم، فلا تطيلوا عليها الانتظار...وانتهى القتال بهزيمة ساحقة
للفرس...
وكان فتح همدان والريّ والدينور على يده، وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين، وتزوّج فيه...
*******
اختياره للكوفة
أنزل
مناخ المدائن بالعرب المسلمين أذى بليغا، فكتب عمر لسعد بن أبي وقاص كي
يغادرها فورا بعد أن يجد مكانا ملائما للمسلمين، فوكل أمر اختيار المكان
لحذيفة بن اليمان ومعه سلمان بن زياد، فلما بلغا أرض الكوفة وكانت حصباء
جرداء مرملة، قال حذيفة لصاحبه: هنا المنزل ان شاء الله وهكذا خططت الكوفة وتحولت الى مدينة عامرة، وشفي سقيم المسلمين وقوي ضعيفهم...
*******
وفاته
لمّا نزل بحذيفة الموت جزع جزعاً شديداً وبكى بكاءً كثيراً، فقيل: ما يبكيك؟...
فقال: ما أبكي أسفاً على الدنيا، بل الموت أحب إليّ، ولكنّي لا أدري على ما أقدم على رضىً أم على سخطٍ...
ودخل عليه بعض أصحابه، فسألهم: أجئتم معكم بأكفان؟...
قالوا: نعم...
قال:
أرونيها...فوجدها جديدة فارهة، فابتسم وقال لهم: ما هذا لي بكفن، انما
يكفيني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص، فاني لن أترك في القبر الا قليلا،
حتى أبدل خيرا منهما، أو شرا منهما...ثم تمتم بكلمات: مرحبا بالموت، حبيب
جاء على شوق، لا أفلح من ندم...وأسلم الروح الطاهرة لبارئها في أحد أيام
العام الهجري السادس والثلاثين بالمدائن، وبعد مَقْتلِ عثمان بأربعين
ليلة...